فصل: (مسألة: المراد بالحيض والأحكام المترتبة عليه)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: رؤية الماء أثناء النافلة]

وإن دخل في صلاة نافلة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها.. ففيه خمسة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المشهور ـ: إن كان قد نوى عددًا.. أتمه كالفريضة، وإن لم ينو عددًا.. سلم من ركعتين، ولم يزد عليهما؛ لأن هذا هو الشرع في النافلة.
والثاني: ـ وهو قول أبي علي السنجي، وأبي زيد المروزي ـ: أنه لا يزيد على ركعتين، وإن نوى أكثر منهما.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه يقتصر على ما صلى منها؛ لأن ما مضى من النافلة يثاب عليه، والفريضة لا يثاب عليها إلا بإكمالها.
والرابع ـ وهو قول القفال ـ: أنه يزيد ما يشاء من عدد الركعات بعد رؤية الماء؛ لأنه قد صح دخوله فيها.
والخامس ـ وهو قول صاحب "الفروع" و" المذهب " ـ: إن نوى عددًا.. أتمه، وإن لم ينو.. بنى على القولين فيمن نذر صلاة: فإن قلنا: يلزمه ركعتان.. صلى ركعتين، وإن قلنا: يلزمه ركعة.. لم يزد عليها.

.[فرع: لا يلزم المتيمم المريض إعادة صلاته]

وإن تيمم للمرض، وصلى.. لم تلزمه الإعادة؛ لأنا قد قلنا: إنه من الأعذار العامة، فهو كمن يصلي مع سلس البول.
وإن خاف من استعمال الماء في البرد تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يكون منه ذلك، فإن كان في موضع يمكنه تسخين الماء، وأمكنه أن يغسل من بدنه عضوًا ويدثره حتى يأتي على الكل.. لم يجز له التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء.
وإن لم يمكنه ذلك، بأن لم يجد ما يسخنه به، أو كانت الرفقة سائرة، أو كان الماء في موضع لا يمكنه الانغماس فيه.. جاز له التيمم؛ لحديث عمرو بن العاص.
وهل يلزمه الإعادة؟
إن كان ذلك في الحضر.. لزمته الإعادة قولاً واحدًا؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كما لو صلى بنجاسة نسيها.
وإن كان ذلك في السفر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تلزمه الإعادة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة.
والثاني: تلزمه الإعادة؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء في الحضر، وأما الخبر: فيجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ويجوز أنه لم يأمره بذلك؛ لعلمه أن عمرًا يعلم ذلك.

.[مسألة: حكم الجبيرة على عضو التيمم]

قال الشافعي: (ولو ألصق على موضع التيمم لصوقًا.. نزع اللصوق وأعاد).
واختلف أصحابنا في مراد الشافعي بذلك:
فمنهم من قال: أراد إذا كان على موضع التيمم قرح أو جرح، فألصق عليه الدواء بخرق أو غيرها، ولا يخاف الضرر من نزعها.. فإنه يلزمه نزع اللصوق، وغسل الصحيح الذي تحتها، والتيمم في موضع القرح، فيصلي ولا يعيد الصلاة.
ومعنى قول الشافعي: (وأعاد) يرجع إلى اللصوق، أي: إذا نزع اللصوق، وغسل الصحيح.. تيمم، وأعاد اللصوق على موضعها.
ومنهم من قال: بل يراد أن يكون القرح على موضع التيمم، وعليه اللصوق، ويخاف من نزعه الضرر.. فإنه يمسح عليه. فإذا نزع اللصوق.. تيمم على القرح، وأعاد الصلاة؛ لأن التيمم لا يجزئ على حائل دون العضو.
وقوله: (أعاد) يرجع إلى الصلاة.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح.
وقال ابن الصباغ: أي المسألتين أراد.. فالحكم على ما ذكرناه.

.[مسألة: حكم الجبيرة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعدو بالجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلا على وضوء).
وجملة ذلك: أن (الجبائر) هي الخشب التي توضع على الكسر.
وقوله: (لا يعدو موضع الكسر) يريد: لا يتجاوز. وليس هذا على ظاهره؛ لأن الكسر لا توضع عليه الجبائر خاصة، بل لا بد أن يضعها على شيء من الصحيح معه للحاجة إليه. أراد: أي: أن لا يضع على شيء من الصحيح لا حاجة به إليه.
فإذا وضع الجبيرة، ثم أراد الغسل أو الوضوء، فإن كان لا يخاف من نزعها ضررًا.. نزعها وغسل ما يقدر عليه من ذلك، وتيمم عما لا يقدر عليه.
وإن خاف من نزعها تلف النفس، أو تلف عضو، أو إبطاء البرء أو الزيادة في الألم إذا قلنا: إنه كخوف التلف.. لم يلزمه حلها، ولزمه غسل ما جاوز موضع الشد، والمسح على الجبيرة.
والأصل فيه: ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال:انكسر زندي، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرني أن أمسح على الجبائر».
وهل يلزمه أن يمسح جميعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسح الجميع؛ لأنه لا ضرر عليه في استيعاب مسحها، فلزمه كالتيمم.
والثاني: يجزئه ما يقع عليه اسم المسح؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف.
وهل يتقدر المسح؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\35]:
أحدهما: أنه يتقدر؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف.
والثاني: لا يتقدر، بل يمسح عليه إلى أن يبرأ، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو الصحيح؛ لأن الحاجة تدعو إلى استدامة اللبس والمسح إلى البرء، بخلاف الخفين، فإنه إذا استدام لبسهما.. تشوشت لفائفه وحميت رجلاه، فكان به حاجة إلى نزعهما.
وواضع الجبيرة ما لم ينجبر.. حاجته باقية إلى اللبس، ويجوز لواضع الجبيرة المسح عليها مع الجنابة، بخلاف لابس الخف؛ لما ذكرناه من الفرق.
وهل يجب عليه أن يتيمم مع المسح؟ ذكر أصحابنا البغداديون فيها قولين:
الأول قال في القديم: لا يتيمم؛ لأنه لا يجب عليه بدلان من مبدل، كما لا يلزم ماسح الخف.
والثاني قال في الجديد: يتيمم؛ «لحديث جابر في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويغسل سائر بدنه».
ولأن واضع الجبيرة أخذ شبهًا من الجريح؛ لأنه يخاف الضرر من غسل العضو، كما يخافه الجريح، وأخذ شبهًا من لابس الخف؛ لأن المشقة تلحقة في نزع الجبيرة، كلابس الخف، فلما أشبههما.. وجب عليه أن يجمع بين حكميهما، وهما المسح والتيمم.
وأما صاحب "الإبانة" فقال [في ق\35] هل يلزمه التيمم؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه.
والثاني: لا يلزمه.
والثالث: إن كان تحت الجبيرة جراحة. لزمه، وإن لم يكن تحتها جراحه.. لم يلزمه.
فإن برئ الموضع.. لزمه حل الجبيرة، وغسل الموضع.
وإن سقطت عنه الجبيرة في الصلاة.. بطلت الصلاة في مدة المسح، كالخف إذا سقط عنه في الصلاة في مدة المسح.
وهل يلزمه إعادة ما صلى بالمسح؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وضع الجبيرة على طهر.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو الأشبه بالسنة ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر علينا بالإعادة.
والثاني: عليه الإعادة. قال أصحابنا: وهو الأحوط؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء الحضر.
وأما حديث علي: فلا يصححه أهل النقل.
وإن كان قد وضعها على غير طهر.. مسح عليها، وصلى، وأعاد قولاً واحدًا، كما لو لبس الخف على غير طهارة.
قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: في الإعادة قولان، وليس بشيء.
قال ابن الصباغ: وهكذا الحكم فيه إذا كان على جرحه عصابة يخاف من نزعها.
وإن كانت الجبيرة على موضع التيمم.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: يكفيه المسح بالماء.. أجزأه. وإن قلنا: يحتاج إلى التيمم.. فإنه يمسح بالماء ويتيمم، ويمسح بالتراب على الجبيرة وتلزمه الإعادة قولاً واحدًا؛ لأن الجبائر لا يجزئ مسحها في التيمم؛ لأن البدل لا يكون على بدل.
وأما تجديد الطهارة لكل صلاة: فإن قلنا: لا يتيمم.. كفته طهارة من الحدث إلى الحدث. وإن قلنا: يتيمم.. احتاج إلى الطهارة عند كل صلاة مفروضة، ولا يجوز أن يجمع بين فرضين بتيمم. وبالله التوفيق.

.[باب الحيض]

.[مسألة: المراد بالحيض والأحكام المترتبة عليه]

قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].
واختلف الناس في المحيض المراد بالآية:
فقال قوم: هو موضع الحيض، وهو الفرج، كما يقال: مبيت لموضع البيتوتة.
وقال قوم: هو زمن الحيض.
وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه هو الحيض، وهو الدم؛ فكأنه قال: اعتزلوا النساء في حال وجود الدم؛ لأنه قال: {هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]. ولا يوصف الفرج والزمان: أنه أذى، وإنما يوصف به الدم).
وروي: «أن أسماء قالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا من المحيض؟».
فإذا حاضت المرأة.. تعلق بها أربعة عشر حكمًا:
أحدها: أنه يحرم فعل الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة.. فدعي الصلاة».
والثاني: أنه يسقط وجوبها؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: كنا نحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا نقضي الصلاة، ولا نؤمر بقضائها».
الثالث: أنه يحرم عليها الصوم؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصل، ولم تصم».
ولا يسقط وجوبه؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة».
الرابع: أنه يحرم الطواف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة رضوان الله عليها وقد حاضت وهي محرمة: «اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت».
الخامس: يحرم عليها قراءة القرآن.
وقال مالك:لا يحرم عليها قراءة القرآن؛ لأنها إذا لم تقرأ.. نسيت القرآن.
وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق\21] أن هذا قول للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم.
ووجه الأول: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقرأ الجنب، ولا تقرأ الحائض شيئًا من القرآن». ولأنها يمكنها أن تستذكر القرآن في نفسها، فلا تنسى.
السادس: يحرم عليها مس المصحف وحمله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
السابع: يحرم عليها اللبث في المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض».
الثامن: يمنع صحة الاعتكاف؛ لأنه إذا حرم عليها اللبث في المسجد من غير عبادة.. فلأن يحرم ذلك عليها مع نية العبادة أولى.
وأما العبور في المسجد: فإن لم تستوثق في الشد والتلجم.. حرم عليها؛ لأنه لا يؤمن أن تلوث المسجد.
وإن استوثقت بالشد.. ففيه وجهان:
أحدهما من أصحابنا من قال: يجوز؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ناوليني الخمرة من المسجد»، فقلت: إني حائض، فقال: «ليست حيضتك في يدك» و (الخمرة): الحصير الصغير.
ولأنه حدث يمنع اللبث في المسجد، فلم يمنع العبور فيه، كالجنابة.
والثاني: منهم من قال: لا يجوز؛ لأن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة، بدليل: أنه يمنع صحة الصوم، ويسقط الصلاة، بخلاف حدث الجنابة.
التاسع: يتعلق به وجوب الغسل. وهل يجب برؤية الدم، أو بانقطاعه؟
فيه وجهان، قد مضى ذكرهما. الصحيح: أنه يجب برؤيته.
فعلى هذا: إذا أجنبت المرأة، وحاضت قبل أن تغتسل، وأرادت أن تغتسل؛ لتقرأ القرآن: إذا قلنا بالقول القديم.. لم يصح غسلها؛ لأن ما أوجب الطهارة منع صحتها، كخروج البول.
وإن قلنا: إن الغسل لا يجب عليها إلا بانقطاع الدم.. صح غسلها عن الجنابة قبل انقطاعه.
العاشر: أنه يحكم ببلوغ المرأة به.
الحادي عشر: أنه يمنع من الاعتداد بالشهور.
الثاني عشر: أنه يمنع من الدخول في العدة وهو إذا طلقها حائضًا.
الثالث عشر: أنه يحرم طلاق المدخول بها، ونحن نذكر أدلة هذه الأحكام في مواضعها، إن شاء الله تعالى.
الرابع عشر: أنه يحرم وطؤها في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].
فأما مباشرتها فيما بين السرة والركبة.. فالمنصوص: (أنه لا يجوز).
وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ومحمد بن الحسن: (يجوز). وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «اصنعوا كل شيء غير النكاح».
ودليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر إحدانا إذا حاضت أن تأتزر، ثم يباشرها».
وفي رواية عنها: «كان يباشر نساءه فوق الإزار، وهن حيض».
وروي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض؟ فقال: ما فوق الإزار».
وأما مباشرتها فيما فوق السرة، وفيما دون الركبة: فإن لم يكن عليه شيء من دم الحيض.. جاز له مباشرتها فيه بالإجماع، ولما رويناه عن عمر، وعائشة.
وإن كان عليه شيء من دم الحيض.. فهل يجوز له مباشرتها؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن به أذى الحيض.
والثاني: يجوز؛ لحديث عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولم يفرق.
فإن خالف ووطئ امرأته في فرجها وهي حائض، فإن كان جاهلاً بحيضها، أو جاهلاً بتحريمه.. فلا شيء عليه.
وإن كان عالمًا بحيضها، عالمًا بتحريم وطئها.. ففيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (إن كان في أول الدم.. لزمه أن يتصدق بدينار. وإن كان في آخره.. لزمه أن يتصدق بنصف دينار). وبه قال الأوزاعي، وإسحاق؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى امرأته حائضًا.. فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم ولم يقبل.. فليتصدق بنصف دينار». وفي رواية: «في الذي يأتي امرأته وهي حائض.. يتصدق بدينار، أو بنصف دينار» ولهذا خيره أحمد بينهما.
والثاني: قال في الجديد: (يأثم بذلك، وقد أتى كبيرة، فليستغفر الله ويتوب إليه، ولا كفارة عليه)؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقوله، أو أتى امرأته في دبرها، أو حائضًا.. فقد كفر بما أنزل على محمد» ولم يأمره بالكفارة.
ولأنه وطء محرم؛ للأذى، فلم تتعلق به الكفارة، كالوطء في الدبر.
وفيه احتراز ممن وطئ في رمضان، أو محرمًا بالحج أو العمرة.
وأما حديث ابن عباس: فقيل: إنه موقوف عليه.
فإذا قلنا بالقول القديم.. فاختلف أصحابنا في إقبال الدم الذي يجب بالوطء فيه دينار، وفي إدباره نصف دينار:
فقال أكثرهم: (إقباله): هو أول الدم، وأيام كونه قويًا، و (آخره): هو انتقاله من القوة إلى الضعف، كانتقال الأسود إلى الأحمر، وانتقال الأحمر إلى الأصفر؛ لما روي في حديث ابن عباس: أنه قال: (إن كان الدم أحمر.. فدينار، وإن كان أصفر.. فنصف دينار).
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: (أول الدم): هو قبل انقطاعه، و (آخره): هو إذا انقطع، ولم تغتسل.
و (الدينار) الذي يجب في ذلك: هو مثقال الإسلام.
وقال الحسن البصري، وعطاء: يجب فيه ما يجب على المجامع في رمضان.
ودليلنا: ما ذكرناه من الخبر.
قال صاحب "الفروع": ويجب ذلك على الزوج دون الزوجة، على ظاهر المذهب، ومصرفه مصرف الكفارات.

.[فرع: إخبارها بالحيض]

إذا أراد الرجل وطء امرأته فقالت: أنا حائض، ولم يعلم بحيضها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن كانت فاسقة.. لم يقبل قولها. وإن كانت عفيفة.. قبل قولها.
وقال الشاشي: إن كانت بحيث يمكن صدقها.. قبل كلامها. وإن كانت فاسقة.. فكما نقول في العدة.

.[فرع: غسل الحائض بعد الانقطاع]

وإذا انقطع دم الحائض.. حل لها: أن تصوم، وتغتسل؛ لأن تحريمهما بالحيض، وقد زال.
ولا يحل لها: الصلاة، والطواف، واللبث في المسجد، والاعتكاف، وقراءة القرآن؛ لأن المنع منه؛ لحدثها، وهو باق.
ولا يحل وطؤها حتى تغتسل، وبه قال الزهري، وربيعة، والثوري، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (إن انقطع دمها لأكثر الحيض.. حل وطؤها قبل الاغتسال، وإن انقطع لدون ذلك.. لم يحل حتى تغتسل).
وقال داود: (إذا غسلت فرجها.. حل وطؤها).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]. فشرط الطهر والطهارة.
فإن عدمت الماء فتيممت.. حل وطؤها.
وقال مكحول: لا يحل وطؤها بالتيمم.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل وطؤها حتى تصلي به).
دليلنا: أن التيمم طهارة تبيح الصلاة، فأباحت الوطء، كطهارة الماء.
فإن صلت بالتيمم فريضة.. فهل يحل وطؤها؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يحل، كما لا يحل لها فعل فريضة ثانية.
والثاني: يحل، وهو الأصح؛ لأن هذا التيمم قام مقام غسلها، ولهذا يجوز لها فعل النافلة.

.[مسألة: سن الحيض]

الحيض له سن مخصوص، وقدر مخصوص، فإذا وجد ذلك.. تعلق به أحكام الحيض. والمرجع في إثبات ذلك إلى الوجود، وهو ما يوجد عادة مستمرة، فإذا وجد ذلك.. صار أصلاً.
ومن الناس من قال: لا يرجع في ذلك إلى الوجود.
ودليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا بد من تقديره، ولم يكن له أصل في
الشرع، ولا في اللغة.. رجع فيه إلى العرف والعادة، كالتفرق في البيع، والقبض، والحرز في السرقة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم": (أعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة، يحضن لتسع سنين).
وقال في بعض كتبه: (رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة).
قال أصحابنا: ويجيء على أصله أن تكون جدة لها تسع عشرة سنة؛ لأنها تحبل لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، ثم تحبل ابنتها لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، فذلك تسع عشرة سنة.

.[فرع: أقل الحيض]

وأما أقل الحيض: فاختلف العلماء فيه:
فقال أبو حنيفة، والثوري: (أقله ثلاثة أيام).
وقال أبو يوسف: أقله يومان وأكثر اليوم الثالث.
وقال مالك: (ليس لأقله حد، ويجوز أن يكون لحظة واحدة).
وأما الشافعي: فذكر في " المختصر " [1/55] (أن أقله يوم وليلة). وقال في كتاب (العدد): (أقله يوم).
واختلف أصحابنا فيها، على ثلاث طرق:
فـالأول: منهم من قال: فيه قولان.
والثاني: منهم من قال: أقله يوم، قولاً واحدًا، وإنما قال: يوم وليلة، قبل أن يثبت عنده اليوم وحدة، فلما ثبت عنده اليوم.. رجع إليه.
والثالث منهم من قال: هو يوم وليلة، قولاً واحدًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح الذي فرعنا عليه، وبه نفتي، وعليه نناظر، ولا يجوز أن يكون للشافعي فيها قولان؛ لأنه رجع في ذلك إلى الوجود، وقد ثبت الوجود عنده بذلك. وقوله: (يوم) أراد: بليلته؛ لأن العرب إذا أطلقت الأيام.. فالمراد بها: بلياليها، وإذا أطلقت الليالي.. فالمراد بها: بأيامها.
قال الله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7].
وأما الوجود في ذلك: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رأيت امرأة أثبت لي عنها: أنها لم تزل تحيض يومًا لا تزيد عليه، وأثبت لي عن نساء: أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام).
وقال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يومًا، وتحيض خمسة عشر يومًا.
وقال أبو عبد الله الزبيري: كان من نسائنا من تحيض يومًا، وتحيض خمسة عشر يومًا.
وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا. وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (أكثره عشرة أيام).
وقال سعيد بن جبير: أكثره ثلاثة عشر يومًا.
وروي عن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا. والثانية: (لا حد لأكثره). والثالثة: (أكثره سبعة عشر يومًا).
دليلنا: أن المرجع في ذلك إلى الوجود، وقد روينا عن عطاء، وأبي عبد الله الزبيري: أن من النساء من تحيض خمسة عشر يومًا.
وقال شريك بن عبد الله: عندنا امرأة تحيض من الشهر خمسة عشر يومًا.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رأيت نساء أثبت لي عنهن: أنهن لم يزلن يحضن ثلاثة عشر يومًا).
وغالب الحيض: ست أو سبع؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام، كما تحيض النساء ويطهرن؛ لميقات حيضهن وطهرهن».